سورة طه - تفسير تفسير ابن الجوزي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (طه)


        


قوله تعالى: {قال فَمَنْ ربُّكما} في الكلام محذوف معناه معلوم، وتقديره: فأتَياه فأَدَّيا الرسالة. قال الزجاج: وإِنما لم يقل: فأتَياه، لأن في الكلام دليلاً على ذلك، لأن قوله: {فمن ربُّكما} يدل على أنهما أتياه وقالا له.
قوله تعالى: {أعطى كُلَّ شيء خَلْقَه} فيه ثلاثة أقوال.
أحدها: أعطى كُلَّ شيء صورته، فخلق كُلَّ جنس من الحيوان على غير صورة جنسه، فصورة ابن آدم لا كصورة البهائم، وصورة البعير لا كصورة الفرس، روى هذا المعنى الضحاك عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وسعيد بن جبير.
والثاني: أعطى كل ذكر زوجَه، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال السدي، فيكون المعنى: أعطى كُلَّ حيوان ما يشاكله.
والثالث: أعطى كل شيء ما يُصْلِحه، قاله قتادة.
وفي قوله: {ثم هدى} ثلاثة أقوال.
أحدها: هدى كيف يأتي الذَّكَرُ الأنثى، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال ابن جبير.
والثاني: هدى للمنكح والمطعم والمسكن، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثالث: هدى كل شيء إِلى معيشته، قاله مجاهد. وقرأ عمر بن الخطاب، وابن عباس، والأعمش، وابن السميفع، ونصير عن الكسائي: {أعطى كُلَّ شيء خَلَقَهُ} بفتح اللام.
فإن قيل: ما وجه الاحتجاج على فرعون من هذا؟
فالجواب: أنه قد ثبت وجود خَلْق وهداية، فلا بد من خالقٍ وهادٍ.
قوله تعالى: {قال فما بال القرون الأولى} اختلفوا فيما سأل عنه من حال القرون الأولى على ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه سأله عن أخبارها وأحاديثها، ولم يكن له بذلك عِلْم، إِذ التوراة إِنما نزلت عليه بعد هلاك فرعون، فقال: {عِلْمها عند ربِّي}، هذا مذهب مقاتل. وقال غيره: أراد: إِنِّي رسول، وأخبار الأمم عِلْم غيب، فلا علم لي بالغيب.
والثاني: أن مراده من السؤال عنها: لم عُبدت الأصنامُ، ولِم لم يُعبدِ اللهُ إِن كان الحقُّ ما وصفتَ؟!
والثالث: أن مراده: ما لها لا تُبعث ولا تُحاسَب ولا تجازى؟! فقال: عِلْمها عند الله، أي: عِلْم أعمالها. وقيل: الهاء في {عِلْمُها} كناية عن القيامة، لأنه سأله عن بعث الأمم، فأجابه بذلك.
وقوله: {في كتاب} أراد: اللوح المحفوظ.
قوله تعالى: {لا يضلُّ ربِّي ولا يَنْسى} وقرأ عبد الله بن عمرو، وعاصم الجحدري، وقتادة، وابن محيصن: {لا يُضِلُّ} بضم الياء وكسر الضاد، أي: لا يضيِّعه. وقرأ أبو المتوكل، وابن السميفع: {لا يُضَل} بضم الياء وفتح الضاد. وفي هذه الآية توكيد للجزاء على الأعمال، والمعنى: لا يخطئ ربي ولا ينسى ما كان من أمرهم حتى يجازيهم بأعمالهم. وقيل: أراد: لم يجعل ذلك في كتاب لأنه يضل وينسى.
قوله تعالى: {الذي جَعَل لكم الأرض مهاداً} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: {مهاداً}.
وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: {مهداً} بغير ألف. والمهاد: الفراش، والمهد: الفرش. {وسلك لكم} أي: أدخل لأجْلكم في الأرض طُرُقاً تسلكونها، {وأنزل من السماء ماءً} يعني: المطر. وهذا آخر الإِخبار عن موسى. ثم أخبر الله تعالى عن نفسه بقوله: {فأخرجنا به} يعني: بالماء {أزواجاً من نبات شتّى} أي: أصنافاً مختلفة في الألوان والطُّعوم، كل صنف منها زوج. و{شتى} لا واحد له من لفظه. {كُلُوا} أي: مما أخرجنا لكم من الثمار {وارعَوْا أنعامكم} يقال: رعى الماشية، يرعاها: إِذا سرَّحها في المرعى. ومعنى هذا الأمر: التذكير بالنِّعم، {إِنَّ في ذلكَ لآياتٍ} أي: لَعِبَراً في اختلاف الألوان والطعوم {لأولي النُّهى} قال الفراء: لذوي العقول، يقال للرجل: إِنه لذو نُهْيَةٍ: إِذا كان ذا عقل. قال الزجاج: واحد النُّهى: نُهْيَة، يقال: فلان ذو نُهْيَة، أي: ذو عقل ينتهي به عن المقابح، ويدخل به في المحاسن؛ قال: وقال بعض أهل اللغة: ذو النُّهية: الذي يُنتهى ِإِلى رأيه وعقله، وهذا حسن أيضاً.
قوله تعالى: {منها خلقناكم} يعني: الأرض المذكورة في قوله: {جعل لكم الأرض مهاداً}. والإِشارة بقوله: {خلقناكم} إِلى آدم، والبشر كلُّهم منه. {وفيها نُعِيدكم} بعد الموت {ومنها نُخْرِجكم تارة} أي: مَرَّة {أُخرى} بعد البعث، يعني: كما أخرجناكم منها أولاً عند خلق آدم من الأرض.


قوله تعالى: {ولقد أريناه} يعني: فرعون {آياتِنا كُلَّها} يعني: التسع الآيات، ولم ير كلَّ آية لله، لأنها لا تُحصى، {فكذَّب} أي: نسب الآيات إِلى الكذب، وقال: هذا سِحْر {وأبى} أن يؤمن {قال أجئتَنا لتُخرجنا من أرضنا} يعني: مصر {بِسِحْرك} أي: تريد أن تغلب على ديارنا بسحرك فتملكها وتخرجنا منها {فلنأْتينَّك بِسِحْرٍ مثلِه} أي: فلنقابلنَّ ما جئتَ به من السِّحر بمثله {فاجعل بيننا وبينكَ موعداً} أي: اضرب بيننا وبينكَ أجَلاً وميقاتاً {لا نُخْلِفُه} أي: لا نجاوزه {نحنُ ولا أنتَ مكاناً} وقيل: المعنى: اجعل بيننا وبينكَ موعداً مكاناً نتواعد لحضورنا ذلك المكان، ولا يقع مِنَّا خلاف في حضوره. {سوىً} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، والكسائي بكسر السين. وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة، وخلف، ويعقوب: {سُوىً} بضمها. وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو المتوكل، وابن أبي عبلة: {مكاناً سَواءً} بالمد والهمز والنصب والتنوين وفتح السين. وقرأ ابن مسعود مثله، إِلا أنه كسر السين. قال أبو عبيدة: هو اسم للمكان النصف فيما بين الفريقين، والمعنى: مكاناً تستوي مسافته على الفريقين، فتكون مسافة كل فريق إِليه كمسافة الفريق الآخر. {قال موعدكم يومُ الزينة} قرأ الجمهور برفع الميم. وقرأ الحسن، ومجاهد، وقتادة، وابن أبي عبلة، وهبيرة عن حفص بنصب الميم. وفي هذا اليوم أربعة أقوال.
أحدها: يوم عيد لهم، رواه أبو صالح عن ابن عباس، والسدي عن أشياخه، وبه قال مجاهد، وقتادة، وابن زيد.
والثاني: يوم عاشوراء، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.
والثالث: يوم النيروز، ووافق ذلك يوم السبت أول يوم من السنة، رواه الضحاك عن ابن عباس.
والرابع: يوم سوق لهم، قاله سعيد بن جبير.
وأما رفع اليوم، فقال البصريون: التقدير: وقتُ موعدكم يومُ الزينة، فناب الموعد عن الوقت، وارتفع به ما كان يرتفع بالوقت إِذا ظهر. فأما نصبه، فقال الزجاج: المعنى: موعدُكم يقع يوم الزينة، {وأن يُحْشَر الناس} موضع {أن} رفع، المعنى: موعدكم حشر الناس {ضحى} أي: إِذا رأيتم الناس قد حُشروا ضحى. ويجوز أن تكون {أن} في موضع خفض عطفاً على الزينة، المعنى: موعدكم يوم الزينة ويوم حشر الناس ضحىً. وقرأ ابن مسعود، وابن يعمر، وعاصم الجحدري: {وأن تَحْشُر} بتاء مفتوحة ورفع الشين ونصب {الناسَ}. وعن ابن مسعود، والنخعي: {وأن يَحشُر} بالياء المفتوحة ورفع الشين ونصب {الناسَ}.
قال المفسرون: أراد بالناس: أهلَ مصر، وبالضحى: ضحى اليوم، وإِنما علَّقه بالضحى، ليتكامل ضوء الشمس واجتماع الناس، فيكون أبلغَ في الحجة وأبعدَ من الريبة.
{فتولَّى فرعون} فيه قولان:
أحدهما: أن المعنى: تولَّى عن الحق الذي أُمِر به.
والثاني: أنه انصرف إِلى منزله لاستعداد ما يلقى به موسى، {فجمع كيده} أي: مكره وحيلته {ثم أتى} أي: حضر الموعد.
{قال لهم موسى} أي: للسحرة. وقد ذكرنا عددهم في [الأعراف: 114].
قوله تعالى: {ويلكم} قال الزجاج: هو منصوب على ألزمكم الله ويلاً ويجوز أن يكون على النداء، كقوله تعالى: {يا ويلنا مَن بعثنا من مرقدنا} [يس: 52].
قوله تعالى: {لا تفتروا على الله كذباً} قال ابن عباس: لا تشركوا معه أحداً.
قوله تعالى: {فيسحتَكم} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: {فيَسحَتَكم} بفتح الياء، من سحت. وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: {فيُسحِتكم} بضم الياء، من أسحت. قال الفراء: ويُسحت أكثر، وهو الاستئصال، والعرب تقول: سحته الله، وأسحته، قال الفرزدق:
وَعَضَّ زَمانٍ يابْنَ مَرْوَانَ لَمْ يَدَعْ *** مِنَ المَالِ إِلاَّ مُسْحَتاً أوْ مُجَلَّفُ
هكذا أنشد البيت الفراء، والزجاج. ورواه أبو عبيدة: إِلاَّ مُسْحَتٌ أو مُجلَّفُ بالرفع. قوله تعالى: {فتنازعوا أمرهم بينهم} يعني: السحرة تناظروا فيما بينهم في أمر موسى، وتشاوروا {وأسرُّوا النجوى} أي: أَخْفَوْا كلامهم من فرعون وقومه. وقيل: من موسى وهارون. وقيل: {أسرُّوا} هاهنا بمعنى أظهروا.
وفي ذلك الكلام الذي جرى بينهم ثلاثة أقوال.
أحدها: أنهم قالوا: إِن كان هذا ساحراً، فإنا سنغلبه، وإِن يكن من السماء كما زعمتم، فله أمره، قاله قتادة.
والثاني: أنهم لما سمعوا كلام موسى قالوا: ما هذا بقول ساحر، ولكن هذا كلام الرب الأعلى، فعرفوا الحقَّ، ثم نظروا إِلى فرعون وسلطانه، وإِلى موسى وعصاه، فنُكسوا على رؤوسهم، وقالوا إِن هذان لساحران، قاله الضحاك، ومقاتل.
والثالث: أنهم {قالوا إِنْ هذان لساحران...} الآيات، قاله السدي.
واختلف القراء في قوله تعالى: {إِنْ هذان لساحران} فقرأ أبو عمرو بن العلاء: {إِنَّ هذين} على إِعمال {إِنَّ} وقال: إِني لأستحيي من الله أن أقرأ {إِنْ هذان}. وقرأ ابن كثير: {إِنْ} خفيفه {هذانّ} بتشديد النون. وقرأ عاصم في رواية حفص: {إِنْ} خفيفة {هذان} خفيفة أيضاً. وقرأ نافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: {إِنّ} بالتشديد {هاذان} بألف ونون خفيفة. فأما قراءة أبي عمرو، فاحتجاجه في مخالفة المصحف بما روى عن عثمان وعائشة، أن هذا من غلط الكاتب على ما حكيناه في قوله تعالى: {والمقيمين الصلاة} في سورة [النساء: 162]. وأما قراءة عاصم، فمعناها: ما هذان إِلا ساحران،
كقوله تعالى: {وإِنْ نظنُّك لمن الكاذبين} [الشعراء: 186] أي: ما نظنك إِلا من الكاذبين، وأنشدوا في ذلك:
ثكلتْك أمُّك إِن قتلتَ لَمُسْلِماً *** حَلّت عَليه عُقوبة المُتَعمِّدِ
أي: ما قتلت إِلا مسلماً. قال الزجاج: ويشهد لهذه القراءة، ما روي عن أُبيِّ ابن كعبٍ أنه قرأ {ما هذان إِلا ساحران}، وروي عنه: {إِن هذان إِلا ساحران}، ورويت عن الخليل {إِنْ هذان} بالتخفيف، والإِجماع على أنه لم يكن أحدٌ أعلمَ بالنحو من الخليل. فأما قراءة الأكثرين بتشديد {إِنَّ} وإِثبات الألف في قوله: {هاذان} فروى عطاء عن ابن عباس أنه قال: هي لغة بلحارث بن كعب.
وقال ابن الأنباري: هي لغة لبني الحارث بن كعب، وافقتها لغة قريش. قال الزجاج: وحكى أبو عبيدة عن أبي الخطاب، وهو رأس من رؤوس الرواة: أنها لغة لكنانة، يجعلون ألف الاثنين في الرفع والنصب والخفض على لفظ واحد، يقولون: أتاني الزيدان، ورأيت الزيدان، ومررت بالزيدان، وأنشدوا:
فأَطْرَقَ إِطْرَاقَ الشُّجاعِ وَلَوْ رَأىَ *** مَسَاغاً لِنَابَاهُ الشُّجَاعُ لَصَمَّمَا
ويقول هؤلاء: ضربته بين أُذناه. وقال النحويون القدماء: هاهنا هاء مضمرة، المعنى: إِنه هذان لساحران. وقالوا أيضاً: إِن معنى {إِنَّ}: نعم {هذان لساحران}، وينشدون:
ويَقْلنَ شَيْبٌ قد عَلاَ *** كَ وقد كَبِرتَ فقلتُ إِنَّهْ
قال الزجاج: والذي عندي، وكنتُ عرضتُه على عالمنا محمد بن يزيد، وعلى إِسماعيل بن إِسحاق ابن حماد بن زيد، فقبلاه، وذكرا أنه أجود ما سمعناه في هذا، وهو أن {إِنَّ} قد وقعت موقع نعم، والمعنى: نعم هذان لهما الساحران، ويلي هذا في الجودة مذهب بني كنانة. وأستحسن هذه القراءة، لأنها مذهب أكثر القراء، وبها يُقرأ. وأستحسن قراءة عاصم، والخليل، لأنهما إِمامان، ولأنهما وافقا أُبَيَّ بن كعب في المعنى. ولا أجيز قراءة أبي عمرو لخلاف المصحف. وحكى ابن الأنباري عن الفراء قال: ألف هذان هي ألف هذا والنون فرَّقتْ بين الواحد والتثنية، كما فرقت نون الذين بين الواحد والجمع.
قوله تعالى: {ويذهبا بطريقتكم} وقرأ أبان عن عاصم: {ويُذهِبا} بضم الياء وكسر الهاء. وقرأ ابن مسعود، وأُبَيُّ بن كعب، وعبد الله بن عمرو، وأبو رجاء العطاردي: {ويذهبا بالطريقة} بألف ولام، مع حذف الكاف والميم. وفي الطريقة قولان:
أحدهما: بدينكم المستقيم، رواه الضحاك عن ابن عباس. وقال أبو عبيدة: بسُنَّتِكم ودِينِكم وما أنتم عليه، يقال: فلان حسن الطريقة.
والثاني: بأمثلكم، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وقال مجاهد: بأُولي العقل، والأشراف، والأسنان. وقال الشعبي: يصرفان وجوه الناس إِليهما. قال الفراء: الطريقة: الرجال الأشراف، تقول العرب للقوم الأشراف: هؤلاء طريقة قومهم، وطرائق قومهم.
فأما {المثلى} فقال أبو عبيدة: هي تأنيث الأمثل. تقول في الإِناث: خذ المثلى منهما، وفي الذكور: خذ الأمثل. وقال الزجاج: ومعنى المثلى والأمثل: ذو الفضل الذي به يستحق أن يقال: هذا أمثل قومه؛ قال: والذي عندي أن في الكلام محذوفاً، والمعنى: يذهبا بأهل طريقتكم المثلى، وقول العرب: هذا طريقة قومه، أي: صاحب طريقتهم.
قوله تعالى: {فأجمعوا كيدكم} قرأ الأكثرون: {فأجمِعوا} بقطع الألف من أجمعت. والمعنى: ليكن عزمكم مجمعاً عليه، لا تختلفوا فيختلَّ أمرُكم. قال الفراء: والإِجماع: الإِحكام والعزيمة على الشيء، تقول: أجمعت على الخروج، وأجمعت الخروج، تريد: أزمعت، قال الشاعر:
يا لَيْتَ شِعْرِي والمُنَى لا تَنْفَعُ *** هَلْ أغْدُونَ يَوْماً وأمْرِي مُجْمَع
يريد: قد أُحكم وعُزم عليه. وقرأ أبو عمرو: {فاجمَعوا} بفتح الميم من جمعت، يريد: لا تَدَعوا من كيدكم شيئاً إِلا جئتم به. فأما كيدهم، فالمراد به: سحرهم ومكرهم.
قوله تعالى: {ثم ائتُوا صَفَّاً} أي: مُصْطَفِّين مجتمعين، ليكون أنظم لأموركم، وأشدَّ لهيبتكم. قال أبو عبيدة: {صفاً} أي: صفوفاً. وقال ابن قتيبة: {صفاً} بمعنى: جمعاً. قال الحسن: كانوا خمسة وعشرين صفاً، كلُّ ألف ساحر صفٌّ.
قوله تعالى: {وقد أفلح اليوم من استعلى} قال ابن عباس: فاز من غلب.


قوله تعالى: {بل ألقوا} قال ابن الأنباري: دخلت {بل} لمعنى: جحد في الآية الأولى، لأن الآية الأولى إِذا تُؤمِّلتْ وُجِدتْ مشتملة على: إِما أن تلقي، وإِما أن لا تلقي.
قوله تعالى: {وعِصِيُّهم} قرأ الحسن، وأبو رجاء العطاردي، وأبو عمران الجوني، وأبو الجوزاء: {وعُصيُّهم} برفع العين.
قوله تعالى: {يُخيَّل إِليه} وقرأ أبو رزين العقيلي، وأبو عبد الرحمن السُّلَمي، والحسن، وقتادة، والزهري، وابن أبي عبلة: {تُخيَّلُ} بالتاء، {إِليه} أي: إِلى موسى. يقال: خُيِّل إِليه: إِذا شُبِّه له. وقد استدل قوم بهذه الآية على أن السحر ليس بشيء. وقال: إِنما خيِّل إِلى موسى، فالجواب: أنا لا ننكر أن يكون ما رآه موسى تخييلاً، وليس بحقيقة، فإنه من الجائز أن يكونوا تركوا الزئبق في سلوخ الحيات حتى جرت، وليس ذلك بحيَّات، فأما السحر، فإنه يؤثِّر، وهو أنواع. وقد سُحِرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى أثر فيه، ولعن العاضهة، وهي الساحرة.
قوله تعالى: {فأوجس في نفسه خيفةً موسى} قال ابن قتيبة: أضمر في نفسه خوفاً. وقال الزجاج: أصلها خِوفة ولكن الواو قلبت ياءً لانكسار ما قبلها.
وفي خوفه قولان:
أحدهما: أنه خوف الطبع البشري.
والثاني: أنه لما رأى سحرهم من جنس ما أراهم في العصى، خاف أن يلتبس على الناس أمره، ولا يؤمنوا، فقيل له: {لا تخف إِنك أنت الأعلى} عليهم بالظَّفَر والغَلَبة. وهذا أصح من الأول.
قوله تعالى: {وَأَلْقِ ما في يمينك} يعني: العصا {تلقفْ} وقرأ ابن عامر: {تلقَّفُ ما} برفع الفاء وتشديد القاف. وروى حفص عن عاصم: {تلقف} خفيفة. وكان ابن كثير يشدِّد التاء من {تلقف} يريد: {تتلقف}. وقرأ ابن مسعود، وأُبَيُّ بن كعب، وسعيد بن جبير، وأبو رجاء: {تلقم} بالميم. وقد شرحناها في [الأعراف: 117]، {إِنما صنعوا كيدُ ساحر} قرأ حمزة، والكسائى، وخلف: {كيد سحر}. وقرأ الباقون: {كيد ساحر} بألف، والمعنى: إِن الذي صنعوا كيد ساحر، أي: عمل ساحر. وقرأ ابن مسعود، وأبو عمران الجوني: {إِنما صنعوا كيدَ} بنصب الدال. {ولا يفلح الساحر} قال ابن عباس: لا يسعد حيثما كان. وقيل: لا يفوز. وروى جندب بن عبد الله البجلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أخذتم الساحر فاقتلوه، ثم قرأ {ولا يفلح الساحر حيث أتى}، قال: لا يأمن حيث وجد». قوله تعالى: {قال آمنتم له} قرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم، وورش عن نافع: {آمنتم له} على لفظ الخبر. وقرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر: {آمنتم له} بهمزة ممدودة. وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: {أآمنتم له} بهمزتين الثانية ممدودة.
قوله تعالى: {إِنه لكبيركم} قال ابن عباس: يريد معلِّمكم.
قال الكسائي: الصبي بالحجاز إِذا جاء من عند معلِّمه، قال: جئت من عند كبيري.
قوله تعالى: {ولأصلبنَّكم في جذوع النخل} {في} بمعنى على، ومثله: {أم لهم سُلَّم يستمعون فيه} [الطور: 38]. {ولتعلمُنَّ} أيُّها السحرة {أيُّنا أشدُّ عذاباً} لكم {وأبقى} أي: أدوَم، أنا على إِيمانكم، أو ربُّ موسى على تركهم الإِيمان به؟ {قالوا لن نؤثرك} أي: لن نختارك {على ما جاءنا من البينات} يعنون اليد والعصى.
فإن قيل: لم نسبوا الآيات إِلى أنفسهم بقولهم: {جاءنا} وإِنما جاءت عامة لهم ولغيرهم.
فالجواب: أنهم لما كانوا بأبواب السحر ومذاهب الاحتيال أعرف من غيرهم، وقد علموا أن ما جاء به موسى ليس بسحر، كان ذلك في حق غيرهم أبْيَن وأوضح، وكانوا هم لمعرفته أخص.
وفي قوله تعالى: {والذي فطرنا} وجهان ذكرهما الفراء، والزجاج.
أحدهما: أن المعنى: لن نؤثرك على ماجاءنا من البينات، وعلى الذي فطرنا.
والثاني: أنه قسم، تقديره: وحقِّ الذي فطرنا.
قوله تعالى: {فاقض ما أنت قاض} أي: فاصنع ما أنت صانع. وأصل القضاء: عمل باحكام {إِنما تقضي هذه الحياة الدنيا} قال الفراء: {إِنما} حرف واحد، فلهذا نصب: {الحياة الدنيا}. ولو قرأ قارئ برفع {الحياة} لجاز، على أن يجعل ما في مذهب الذي، كقولك: إِن الذي تقضي هذه الحياة الدنيا. وقرأ ابن أبي عبلة، وأبو المتوكل: {إِنما تُقضى} بضم التاء على مالم يُسمَّ فاعله، {الحياةُ} برفع التاء. قال المفسرون: والمعنى: إِنما سلطانك وملكك في هذه الدنيا، لا في الآخرة.
قوله تعالى: {ليغفر لنا} يعنون الشرك {وما أكرهتنا عليه} أي: والذي أكرهتنا عليه، أي: ويغفر لنا إِكراهك إِيَّانا على السحر.
فإن قيل: كيف قالوا: أكرهتنا، وقد قالوا: {أإِن لنا لأجراً}، وفي هذا دليل على أنهم فعلوا السحر غير مكرهين؟ فعنه أربعة أجوبة.
أحدها: أن فرعون كان يكره الناس على تعلّم السِّحر، قاله ابن عباس. قال ابن الأنباري: كان يطالب بعض أهل مملكته بأن يعلِّموا أولادهم السحر وهم لذلك كارهون، وذلك لشغفه بالسحر، ولما خامر قلبه من خوف موسى، فالإِكراه على السحر، هو الإِكراه على تعلُّمه في أول الأمر.
والثاني: أن السحرة لما شاهدوا موسى بعد قولهم: {أئن لنا لأجراً} ورأوا ذكرَه الله تعالى وسلوكه منهاج المتقين، جزعوا من ملاقاته بالسحر، وحذروا أن يظهر عليهم فيطَّلع على ضعف صناعتهم، فتفسد معيشتهم، فلم يقنع فرعون منهم إِلا بمعارضة موسى، فكان هذا هو الإِكراه على السحر.
والثالث: أنهم خافوا أن يُغلَبوا في ذلك الجمع، فيقدح ذلك في صنعتهم عند الملوك والسُّوَق، وأكرههم فرعون على فعل السحر.
والرابع: أن فرعون أكرههم على مفارقة أوطانهم، وكان سبب ذلك السحر، ذكره هذه الأقوال ابن الأنباري.
قوله تعالى: {والله خير} أي: خير منك ثواباً إِذا أُطيع {وأبقى} عقاباً إِذا عُصي، وهذا جواب قوله: {ولتعلمُنَّ أيُّنا أشد عذاباً وأبقى}؛ وهذا آخر الإِخبار عن السحرة.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7